الأخبارمحلية

اللواء دكتور الطيب عبدالجليل يخاطب رئيس المحكمة الدستورية

سعادة السيد مولانا العالم/ الدكتور وهبي محمد مختار
رئيس المحكمة الدستورية – الموقر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
بلغني تعيينكم من رأس الدولة رئيسأ للمحكمة الدستورية – أعلى هيئة قضائية – في بلدنا ووطننا السودان هبة الجغرافيا والحضارة الكوشية والمروية النوبي(نوباتيا)، وبهذه المناسبة أسمحوا لي أن أكتب لكم بمشاعر الاحساس بجسامة المسئولية والأمانه الملقاة على عاتقكم، ألا وهي أمانة العدل والانصاف – لأهل السودان أجمعين – في ظل الظروف العصيبة التي تمر بها بلادنا، وما تشهده من تقلبات حرب مؤلمة، وتعقيدات أمنية وسياسية، تهدد وتعصف السلم الأهلي ووحدة الوطن والتراب والانسان، مما يزيد الوضع المأزوم من عبء الأمانة الملقاة على عاتق المحكمة الدستورية، بإعتبارها هي الضامن الأعلى لصون الدستور وحماية الحقوق والحريات الأساسية، ورمز العدالة الدستورية التي يستظل بها جميع أبناء السودان على اختلاف انتماءاتهم حاكمين ومحكومين.
إنني أكتب إليكم، ويقيني – بلا حدود – علماً بفيض بحر علمكم الغزير قاضياً وعالماً في علوم القانون والقضاء، وإيماناً بقدرة تحملكم عبء أمانة التكليف، وإيماناً راسخ بدور القضاء في تخفيف حدة الأزمات وحماية المجتمع من الانزلاق نحو الفوضى والاضطراب وعدم الاستقرار. لذا أسمحوا لي تأدباً أمامكم ببعض ما في النفس من هوى آمال، بالقول لسمو معاليكم، أن المرحلة الراهنة من تاريخ الدولة السودانية، يتطلب من مقامكم السامي، المطلوبات الآتية:
1. التمسّك بأعلى معايير الحيادية والاستقلالية، حتى تظل المحكمة الدستورية كيان قضائي فوق الاستقطابات السياسية والحزبية.
2. ترسيخ قيم العدالة الدستورية، باعتبارها صمام الأمان في زمن الانقسام والتشظي السياسي وإنفلات النظام والأمن العام، وذلك عبر حماية الحقوق الجوهرية للإنسان السوداني من أي انتهاك، توازناً مع مقتضيات دواعي الأمن والاستقرار.
3. العمل على تعزيز ثقة المواطنين في المحكمة الدستورية، من خلال الشفافية في قراراتها والتزامها بالمعايير الدستورية والإنسانية.
4. الإسهام في صياغة رؤية وطنية للعدالة الدستورية، تُعين على بناء أسس مستقبل آمن ومستقر لأهل السودان، وتفتح الطريق أمام مصالحة وطنية شاملة.
5. إعلاء قيمة السلم الأهلي والعيش المشترك، بإعطاء الأولوية القصوى، لكل ما يخفف معاناة الناس، ويحمي المجتمع من آثار الحرب.
مولانا العالم رئيس المحكمة الدستورية، إن موقعكم يتجاوز مجرد الوظيفة القضائية، ليصبح رسالة وطنية وأخلاقية في زمن التحديات. وإن تمسّك المحكمة الدستورية بدورها المستقل العادل، سيظل منارة يهتدي بها الجميع في رحلة البحث عن وطن يسوده السلام والوئام والطمأنينة والديمقراطية والعدالة.
سعادة مولانا رئيس المحكمة الدستورية، لأجل تحقيق آمال ترسيخ دعائم العدالة في السودان، يجب أن يدرك الجميع حاكمين ومحكومين بأهمية المحكمة الدستورية كأحد أعمدة أركان الدولة الحديثة، ليس فقط باعتبارها مؤسسة قضائية عليا، بل بوصفها صمّام أمان، يوازن بين مقتضيات النظام السياسي وبين الضرورات الحقوقية والإنسانية. فالمحكمة الدستورية – بحكم نشأتها وولايتها – برزت ونشأة من رحم نسيج البيئة السياسية السودانية، ولكنها (أي المحكمة الدستورية) في ذات الوقت تظل فوق النظام السياسي. لأن المحكمة الدستورية هي التي تضبط مسارات عقل الفعل والعمل السياسي السلطوي للحكومة، وتعيد صياغة موازينها، بما يحفظ للإنسان السوداني حقه في العيش الكريم والكرامة الانسانية والعدالة.
سعادة مولانا رئيس المحكمة الدستورية، نعلم بأنكم تحملون أمانة غالية في مرحلة بالغة التعقيد من تاريخ الدولة السودانية، حيث تتقاطع حسابات السلطة ومصالح الأطراف المتنازعة مع حاجة المواطن البسيط إلى الأمن والعدالة. وهنا يكمن جوهر رسالة المحكمة الدستورية؛ أن تكون الحَكَم العادل الذي لا يميل إلى طرف سياسي، ولا يخضع لإكراه القوة، بل يزن الأمور بميزان قسطاس الدستور والضمير الحي الواعي، ليبقى القانون حياً ومرجعية فوق الجميع. ولذلك، موقع المحكمة الدستورية يفرض عليها أن تؤدي أدواراً متوازية ومتوازنة، لتحقيق مقاصد حماية الحقوق، وحماية حوزة الدولة من الانهيار والتفكك.
سعادة مولانا العالم رئيس المحكمة الدستورية، إن التحدي اليوم الذي يواجه الجميع حاكمين ومحكومين، لا يقتصر على فضّ النزاعات القانونية أو مراقبة دستورية القوانين والأحكام القضائية، بل يتعداه إلى حماية بقاء الدولة نفسها من الانهيار والزوال. ففي أزمنة الاضطراب والفوضى، تصبح المحكمة الدستورية مطالبة بتحقيق معادلة دقيقة:
(1) حفظ كيان الدولة وأمن المجتمع من التفكك والضياع، حتى يظل السودان وطناً جامعاً لأهله.
(2) تعزيز الحقوق الدستورية لكل سوداني، باعتبارها صمّام الأمان الذي يقيدّ ويحدّ ويمنع تغوّل السلطة أو انحرافها، ولكن يجب الوضع في الاعتبار، التوازن بين الحقوق الدستورية مع ما يتعرض له أهل السودان من تهديدات البقاء والاستقرار.
(3) إبقاء جسور الثقة مع المواطنين، ليشعروا أن القضاء الدستوري هو حارسهم الأخير، وملاذهم حين تُثقلهم قسوة السياسة وصراعاتها البغيضة.
إن موقع المحكمة الدستورية في هذا الظرف التاريخي الحرج للدولة السودانية، يجعلها صوت العقل الوطني، وضمانة ألا يطغى السياسي على الحقوق، ولا الحقوق على استقرار الدولة، بل تتكامل المعادلة بما يحفظ للجميع الحدّ الأدنى من الأمان والعدل.
سعادة مولانا العالم رئيس المحكمة الدستورية، نعلم الظروف والبيئة السياسية لحقبة سلطة الثلاثين من يونيو 1989م وتاثيراتها على المحكمة الدستورية، وندرك الدور الرائد الفعّال الذي لعبته المحكمة الدستورية، لحماية الحقوق والحريات كما ينبغي، فقد ظلت المحكمة الدستورية حاضرة كمرجعية دستورية. وكما لا يخفى عليكم أن السودان منذ أغسطس 2019م، مروراً بما بعد 15 أبريل 2023م، ظل يعاني من سلبيات جسيمة، كان أبرزها:
(1) تعطيل تشكيل مؤسسات الدولة، وعدم استكمال بنيتها المؤسسية.
(2) غياب المحكمة الدستورية لفترات حاسمة من تاريخ الوطن.
(3) تراكم آلاف القضايا الدستورية التي تمسّ حقوق الناس وحرياتهم الأساسية دون حسم أو بتّ.
لقد أضعف هذا الوضع ثقة المواطنين في العدالة الدستورية، وزاد من مشاعر الظلم والغبن بين العديد من أهل السودان، وأفقد الدولة إحدى أهم أركان ركائزها السياسي والقانوني. وهنا يبرز دوركم التاريخي، لا في إدارة الواقع العدلي فحسب، بل في إعادة تأسيس الثقة بمؤسسة المحكمة الدستورية، باعتبارها ضمير الدولة وصمام أمانها.
سعادة مولانا العالم رئيس المحكمة الدستورية، إن حجم التحديات التي تواجه المحكمة الدستورية، يستدعي التفكير نوعاً ما خارج الصندوق، وذلك عبر إصلاح هيكلي دستوري وقانوني عاجل، ليتيح الآتي:
(1) رفع عدد قضاة المحكمة الدستورية إلى 18 قاضياً، لتتمكنالمحكمة من الاستجابة الفعّالة لحجم القضايا المتراكمة للفترة أغسطس 2019م وحتى ما بعد 15 أبريل 2023م.
(2) العمل بنظام الدوائر الدستورية داخل المحكمة الدستورية، بحيث تتكون كل دائرة من عدد 9 قضاة، يضمنون سرعة الفصل الناجز في القضايا المتراكمه، وضمان معالجة حالات تعدد زوايا النظر والرؤى بين القضاة، ومع المحافظة على جودة الأحكام الدستورية ورصانتها.
(3) تبنّي رؤية عملية للبت الناجز في القضايا المعلقة والمتراكمه، بما يحقق العدالة العاجلة للمواطن المتقاضي، ويعيد الاعتبار لدور المحكمة الدستورية كأعلى سلطة قضائية دستورية.
إن التغيير السياسي في أبريل 2019م، عانى السودان من تعطيل المحكمة الدستورية لسنوات، ما يقارب ستة أعوام، دون تعيين قضاتها أو تفعيل أعمالها. النتيجه أنه خلال هذه الفترة، تراكمت آلاف القضايا الدستورية التي لم تجد طريقها إلى العدالة، فظلت حقوق الناس معطلة، وأصواتهم محجوبة. وكما أن غياب المحكمة في هذه المرحلة الحاسمة أضعف بناء الدولة، وحرمها من أهم مؤسساتها الضامنة للشرعية الدستورية. وكما كان لاندلاع الحرب الدائرة حاليا، أن زاد الأمر تعقيداً، حيث شُلّت مؤسسات الدولة، وازدادت هشاشة النظام السياسي والعدلي. فغياب المحكمة الدستورية في هذا الظرف الخطير، جعل السودان يفتقد صوته القانوني الأعلى، في وقتٍ كان الوطن بأمس الحاجة إلى مرجعية دستورية، تعصم البلاد من الانهيار.
ونختم بهذه الكلمات، بمأثورات ما يليق بالمقام: (العدل إذا ضاع، ضاعت معه الدولة؛ وإذا صين، صان الدولة وأبقى المجتمع)، (إن الدولة قد تقوم بلا جيش أو مال، لكنها لا تقوم بلا عدل)، (العدل حصن الدولة، فإذا انهدم العدل، تساقطت أسوار الدولة أمام الفتن والتهديدات).
نسأل الله لكم التوفيق والسداد لما فيه خير السودان وأهله، وأن يلهمكم – الله العدل العادل الحق – الرشد والحكمة في تحملكم مسئولية توليكم رأس المحكمة الدستورية.
وتفضلوا بقبول وافر الاحترام والتقدير،،،،،
فريق شرطة(حقوقي)
د. الطيب عبدالجليل حسين محمود
المحامي استشاري القانون والموثق
09 سبتمبر 2025م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى